إن
نظرية جان بياجي في اللعب ترتبط ارتباطاً وثيقاً بتفسيره لنمو الذكاء
ويعتقد بياجي أن وجود عمليتي التمثل والمطابقة ضروريتان لنمو كل كائن عضوي
وأبسط مثال هو الأكل ، فالطعام بعد ابتلاعه يصبح جزءاً من الكائن الحي
بينما تعني المطابقة توافق الكائن الحي مع العالم الخارجي كتغيير خط السير
مثلاً لتجنب عقبة من العقبات أو انقباض أعصاب العين في الضوء الباهر .
فالعمليتان متكاملتان إذ تتمم الواحدة الأخرى كما يستعمل بياجي عبارتي
التمثل والمطابقة في معنى أعم لينطبقا على العمليات العقلية . فالمطابقة
تعديل يقوم به الكائن الحي إزاء العالم الخارجي لتمثل المعلومات كما يرجع
النمو العقلي إلى التبادل المستمر والنشط بين التمثل والمطابقة ويحدث
التكيف الذكي عندما تتعادل العمليتان أو تكونان في حالة توازن وعندما لا
يحدث هذا التوازن بين العمليتين فإن المطابقة مع الغاية قد تكون لها الغلبة
على التمثل وهذا يؤدي إلى نشوء المحاكاة وقد تكون الغلبة على التعاقب
للتمثل الذي يوائم بين الانطباع والتجربة السابقة ويطابق بينها وبين حاجات
الفرد وهذا هو اللعب . فاللعب والتمثل جزء مكمل لنمو الذكاء ويسيران في
المراحل نفسها. ويميز بياجي أربع فترات كبرى في النمو العقلي، فالطفل حتى
الشهر الثامن عشر يعيش مرحلة حسية حركية إذ يبدأ الطفل في هذه المرحلة
بانطباعات غير متناسقة عن طريق حواسه المختلفة . وذلك لعدم قدرته على تمييز
هذه الانطباعات من استجاباته المنعكسة لها . ويحصل التناسق الحركي
والتوافق تدريجياً في هذه المرحلة حيث تصبح هذه الأمور ضرورية لإدراك
الأشياء ومعالجتها يدوياً في المكان والزمان . وفي المرحلة التالية الواقعة
بين عامين وسبعة أو ثمانية أعوام – وهي المرحلة التشخيصية تنمو حصيلة
الطفل الرمزية واللفظية فيصبح قادراً على تصور الأشياء في غيابها ويرمز إلى
عالم الأشياء بكامله مع ما بينها من علاقات وهذا يتم من خلال وجهة نظره
الخاصة ولا يستطيع الطفل في هذه المرحلة تجميع الأشياء وفق خصائصها
المشتركة بل يصنفها تصنيفاً توفيقياً إذ استرعى انتباهه شيء ما مشترك بين
مجموعة أشياء. وفي المرحلة الثالثة في الحادية عشرة أو الثانية عشرة يصبح
الطفل قادراً على إعادة النظر في العمليات عقلياً بالنسبة للحالات المادية
فقط . ومع تقدم النمو يتوزع الانتباه وتصبح العمليات القابلة لإعادة النظر
ممكنة عقلياً في بادئ الأمر ثم تنسق مع بعضها حتى ينظر إلى العلاقة المعينة
كحالة عامة لكل فئة. وفي المرحلة الرابعة – مرحلة المراهقة – تصبح
العمليات العقلية عمليات مجردة تجريداً تاماً من الحالات المحسوسة جميعها
وفي كل مرحلة من هذه المراحل تنمو مدارك الطفل بالتجربة من خلال التفاعل
والتوازن بين مناشط التمثل والمطابقة لأن التجربة وحدها لا تكفي وترجع
الحدود الفطرية في النمو لكل مرحلة إلى نضج الجهاز العصبي المركزي من جهة
وإلى خبرة الفرد عن البيئة المحيطة من جهة أخرى. ويبدأ اللعب في
المرحلة الحسية الحركية إذ يرى ( بياجيه ) أن الطفل حديث الولادة لا يدرك
العالم في حدود الأشياء الموجودة في الزمان والمكان فإذا بنينا حكمنا على
اختلاف ردود الأفعال عند الطفل فإن الزجاجة الغائبة عن نظره هي زجاجة
مفقودة إلى الأبد وحين يأخذ الطفل في الامتصاص لا يستجيب لتنبيه فمه وحسب
بل يقوم بعملية المص وقت خلوه من الطعام ولا يعد هذا لعباً حتى ذلك الوقت
لأنه يواصل لذة الطعم . وينتقل سلوك الطفل الآن إلى ما وراء مرحلة الانعكاس
حيث تنضم عناصر جديدة إلى رد الفعل الدوري بين المثيرات والاستجابات ويقلل
نشاط الطفل تكراراً لما فعله سابقاً وهذا ما يطلق عليه بياجيه التمثل
الاسترجاعي ومثل هذا التكرار من أجل التكرار هو في حد ذاته طليعة اللعب
وليس هناك ما يلزم بياجيه بافتراض وجود خاص للعب طالما يرى فيه مظهرا من
مظاهر التمثل الذي يعني تكراراً لعمل ما بقصد التلاؤم معه وتقويته .
وفي الشهر الرابع يتناسق النظر واللمس عند الطفل ويتعلم أن دفع الدمية
المعلقة في سريره يجعلها تتأرجح وإذا ما تعلم الطفل عمل شيء ما فإنه يعيد
هذا العمل مراراً وهذا هو اللعب ابتهاج ( وظيفي ) وابتهاج لأنه سبب نابع من
تكرار الأفعال التي يتم التحكم بها فإذا ما تعلم الطفل كشف الأغطية بغية
البحث عن الدمى والأشياء الأخرى يصبح هذا الكشف في حد ذاته لعبة ممتعة لدى
الطفل من الشهر السابع وحتى الثاني عشر من عمره . فاللعب لم يعد تكراراً
لشيء ناجح بل أصبح تكراراً فيه تغيير وفي أواخر المرحلة الحسية الحركية
يصبح العمل ممكناً في حال غياب الأشياء أو وجودها مع الإدعاء والإيهام .
فاللعب الرمزي أو الإيهام يميز مرحلة الذكاء التشخيصي الممتدة من السنة
الثانية إلى السابعة من العمر فالتفكير الأولي يتخذ شكل الأفعال البديلة
التي لا تزال منتمية إلى آخر تصورات الحركة الحسية . أما اللعب الرمزي
الإيهامي فله الوظيفة نفسها في نمو التفكير التشخيصي كالوظيفة التي كان
يقوم بها التدريب على اللعب في المرحلة الحسية الحركية إذ أنه تمثل خالص
وبالتالي يعمل على إعادة التفكير وترتيبه على أساس الصور والرموز التي يكون
قد أتقنها . كذلك يؤدي اللعب الرمزي إلى تمثل الطفل لتجاربه الانفعالية
وتقويتها . ومع ذلك فالصفة الخاصة للعب الإيهامي تستمد من الصفة الخاصة
لعمليات الطفل العقلية في هذه المرحلة. ويصبح اللعب الإيهامي في المرحلة
التشخيصية أكثر تنظيماً وإحكاماً ومع نمو خبرات الطفل يحدث انتقال كبير إلى
التشخيص الصحيح للحقيقة . وهذا ما يتضمن المزيد من الحركات الحسية
والتدريبات الفعلية بحيث يصبح اللعب ملائماً بشكل تقريبي للحقيقة. ويصبح
الطفل في الوقت نفسه أكثر مطابقة للمجتمع . وينتقل الطفل في الفترة
الواقعة بين الثامنة والحادية عشرة إلى اللعب المحكوم بالنظم الجماعية الذي
يحل محل ألعاب الإيهام الرمزية السابقة وعلى الرغم من أن هذه الألعاب التي
تحكمها القواعد تتكيف اجتماعياً وتستمر حتى مرحلة البلوغ فإنها تظل وكأنها
تمثل أكثر منها مواءمة للحقيقة . وتضفي نظرية بياجيه على اللعب وظيفة
بيولوجية واضحة بوصفه تكراراً نشطاً وتدريباً يتمثل المواقف والخبرات
الجديدة تمثلاً عقلياً وتقدم الوصف الملائم لنمو المناشط المتتابعة . مما تقدم نستخلص أن نظرية بياجيه في اللعب تقوم على ثلاثة افتراضات رئيسة : 1- إن النمو العقلي يسير في تسلسل محدد من الممكن تسريعه أو تأخيره ولكن التجربة لا يمكن أن تغيره وحدها. 2- إن هذا التسلسل لا يكون مستمراً بل يتألف من مراحل يجب أن تتم كل مرحلة منها قبل أن تبدأ المرحلة المعرفية التالية. 3- إن هذا التسلسل في النمو العقلي يمكن تفسيره اعتماداً على نوع العمليات المنطقية التي يشتمل عليها.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق