بغض النظر عن التأويلات التي أثارها الخطاب الملكي الأخير حول راهن التعليم ومآزقه، وكذا تعيين السيد عمر عزيمان،بعد انتظار طويل،
على رأس المجلس الأعلى للتعليم وخلفيات ذلك،لا أحد يجادل بأن ما وصل إليه
قطاع التربية والتكوين اليوم من إخفاقات واختلالات هو حصيلة تراكم ساهمت
فيه أطراف متعددة، ومنذ سنوات،أوصلت المدرسة المغربية العمومية لعزلة فريدة
ووضعية غير محمودة من حيث عدم مواكبتها للثورة المعرفية والمعلوماتية التي
يعرفها العالم، وبُعدها عن الانخراط في قضايا المجتمع والتفاعل مع ظواهره
الجديدة،وعقم المناهج والبرامج المفروض فيها تحفيز القدرات الذاتية
للمتعلمين،وارتباط أغلبها بالحفظ والتلقين والانجذاب للماضي دون مراعاة
المستجدات الهائلة التي يوفرها التقدم العلمي والتقني والمعلوماتي...
وبقدر ما كان رهان المغاربة قويا أن تشهد وزارة التربية الوطنية"ثورة
تربوية"تستجيب لصدى ثورات الربيع العربي وتفتح أوراشا كبرى لإنقاذ التعليم
وتلميع صورته بإعادة الثقة للمدرسة العمومية في أوساط الأسر
المغربية،انطلاقا من تقويم شامل ،صريح وجريء ،يضع في الاعتبار أن قضية
التعليم هي قضية مصيرية بالنسبة للبلاد ولا يمكن ترهينها بالنوازع والمآرب
السياسية المتغيرة بتغير الأشخاص والوضعيات الحزبية التي لا تستطيع أن
توافق وتوفق بين الأهداف العامة للتربية والتكوين في بعدها الوطني،ومتطلبات
الحزب الضيقة. فهل كان السيد محمد الوفا رجل المرحلة ؟أم أنه خيب كل
الانتظارات وأدخل المنظومة في دوامة القرارات المتسارعة والمتضاربة
والمتناقضة المبنية على المزاج والارتجال والارتباك؟. ظل السيد محمد
الوفا وزير التربية الوطنية الحالي لا يستسيغ الاعتراف أو مناقشة أو حتى
الاستماع لكل التقارير الوطنية أو الدولية المنبهة للحالة الغير مطمئنة
التي وصلت إليها منظومة التربية والتكوين ببلادنا، بل إنه أعلن عداءه
الصريح لكل من كان يستشهد بهذه التقارير ويتخذها مرجعية للتشخيص وإصدار
الأحكام، حتى أن إعفاءه للمسؤول عن الوحدة المركزية للجودة،وكما يعرف
المتتبعون للشأن التربوي، يدخل في نطاق رد فعل عن تقرير للجمعية المغربية
لتحسين جودة التعليم التي رصدت فيه حصيلة موسمين دراسيين في عهد الحكومة
الحالية ورسمت فيه صورة قاتمة عن واقع التعليم العمومي بناء على معطيات
إحصائية دقيقة لا مست الميزانيات المرصودة للوزارة وللأكاديميات، في مقابل
ذلك عمل السيد الوزير على الرفع من وثيرة التصريحات والتعليقات،وبدون
مناسبات،للتعبير عن اطمئنان وارتياح موجهين للاستهلاك السياسي لا علاقة
لهما بالواقع الفعلي الذي كانت تكتوي منه الأسر المغربية ومعها نساء ورجال
التعليم، حتى أن إحدى خرجاته، وبدون خجل، جعلت تعليمنا يتفوق على نظيره
الأمريكي على مستوى البنيات التحتية! فعوض أن يجسد السيد الوزير
استمرار الإدارة بالانخراط عبر مقاربة تشاركية، مع كل المكونات الفاعلة في
القطاع، بإتمام الأوراش التي كانت الوزارة قد بدأت العمل فيها بمقاربة
إصلاحية تقويمية تستفيد على الأقل من الأموال الطائلة التي رصدت لعدد من
المشاريع،فإنه عمد وبشكل انفرادي إلى اتخاذ قرارات متسرعة أربكت التوجه
العام الذي كانت الوزارة منخرطة فيه من قبيل توقيف العمل ببيداغوجيا
الإدماج دون وضع مخطط بديل، وكذا البرنامج الاستعجالي الذي عُوض ببرنامج
العمل المتوسط المدى 2013-2016 والذي لم يكن إلا نسخة رديئة من البرنامج
الأول تغيب عنه الأهداف الكبرى للبرنامج الحكومي في علاقتها بالدستور
الجديد خصوصا ربط المسؤولية بالمحاسبة.دون الحديث عن التسرع في إرساء
المراكز الجهوية للتربية والتكوين، وفوضى الزمن المدرسي وما خلفه من ارتباك
واحتجاجات وسط الأسرة التعليمية،ومنع أساتذة التعليم العمومي من التدريس
بالتعليم الخصوصي، نشر لوائح المحتلين للسكن الوظيفي والموظفين الأشباح
بطريقة شعبوية تغيب فيها المتابعة للملفات مما يبين أن الأمر كان موجها
للدعاية السياسوية الضيقة التي لا تراهن على التفكير العميق في بنية
المنظومة التربوية وضرورة معالجتها بشكل يستحضر مخارجها التي لم تكن سوى
تعميق الفوارق بين المجتمع والمدرسة وبداية عزلتها عن محيطها. لقد فتح
السيد الوزير عدة جبهات للتوتر والاحتقان داخل القطاع وخلق وضعية شاذة
يترجمها الغليان العام الذي يشترك فيه كل الفاعلين والعاملين في القطاع
بدءا بالمقربين من الأطر العليا العاملة بالوزارة التي كال لها السيد
الوزير العديد من استعارات التحقير والتنقيص، فأصبحنا نسمع عن "مول لبْني
ومول الكتوبة" كناية عن مدير التجهيز ومدير المناهج.نفس الشيء بالنسبة
لمدراء الأكاديميات والنواب الذين لم يسلم بعضهم من توقيفات تعسفية.
أما النقابات التعليمية فإن إقصاءها من تدبير الحركات المحلية والجهوية
لهذه السنة، وعدم استشارتها في عدد من القضايا التعليمية المصيرية بالنسبة
للأسرة التعليمية، وإحساسها بعدم جدية الحوارات القليلة التي عقدتها مع
السيد الوزير، وعدم نجاعة اللجان الموضوعاتية في حل عدد من الملفات العالقة
كملف الدكاترة والمبرزين والجازين والمساعدين التقنيين والإداريين وغيرهم
من الفئات ...يجعلها تتهيء لدخول مدرسي ساخن عبرت عنه بياناتها ولقاءاتها
الأخيرة مع القواعد التعليمية. أما المفتشون فإن معركتهم مع الوزير وصل
صداها للمحاكم،وهم غير راضين على الإقصاء الممنهج الذي يسلكه الوزير معهم
في عدد من القضايا التي تهم الجانب التربوي وآخرها إلغاء التنسيق المركزي.
وليس المديرون بأحسن أحوال من غيرهم إذ يشعرون بأنهم خدعوا في تفاوضهم مع
الوزير حول تغيير الإطار الذي منّاهم به السيد الوزير في بداية توليه مهام
الوزارة . منظومة تشهد مواردها البشرية هذا التفكك والانفصام بين أطرها
، لا يمكن المراهنة على تطوير أدائها بالحديث عن الجودة والحكامة، رغم أن
ذلك لا يُغيب النقص الشديد في الأطر والذي ينعكس سلبا على المردودية وجودة
التعلمات. فهل بعد الخطاب الملكيالذي تابعه الشعب المغربي بمناسبة ذكرى
ثورة الملك والشعب، وما حمله من معاني كاشفة وفاضحة ، لواقع حال منظومتنا
وما تشهده من اختلالات عميقة تمس المناهج والبرامج التي لا تستجيب لمتطلبات
سوق العمل وبالتالي تساهم في تفريخ عدد العاطلين مقارنة مع ما ينجزه
التكوين المهني كرافد مهم يخول للتلاميذ والطلبة الاندماج في عالم
الشغل.يمكن الاستمرار في تغليط الرأي العام والمجازفة بتضييع وقت أطول في
ظرفية أصبح الولوج لعالم المعرفة يفترض مقاربات جديدة تأخذ بعين الاعتبار
التطور التقني والاكتساح الجارف للمعلوميات داخل فضاء المدرسة ،مما يستوجب
فتح حوار حقيقي وديمقراطي بين كل المكونات، يُتمم ما تم التعاقد حوله في
الميثاق الوطني للتربية والتكوين، ويستأنس بخلاصات تقرير الخمسينية المهمة،
ويستثمر بعض النقط المضيئة في منظومتنا بجرأة تعلن أن عددا من الممارسات
والقضايا والإشكالات يجب إعادة النظر فيها ومراجعتها.....
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق